هي حركة دينية صوفية ظهرت في القرون الثلاثة الأولى بعد الميلاد، ويرجع اسمها إلى وسيلة الخلاص عند أصحابها. فالغنوسي يخلص بامتلاك معرفة خاصة (وهي في اليونانية ” غنوسي ” – Gnosis).
والغنوسية في صورتها الكاملة برزت في القرنين الثاني والثالث، وإن كان بعض العلماء يطلقون هذا الاسم أيضًا على بعض النزعات الغنوسية في القرن الأول. وليس ثمة دليل قاطع على وجود حركة غنوسية قبل العصر المسيحي.
أولًا: مصادر تاريخهم:
إن معرفتنا بهذه الحركة يرجع أساسًا إلى كتابات آباء الكنيسة ضدها، وبخاصة “إيريناوس” (Irenaeus) في كتابه “ضد الهراطقة”، و”هيبوليتوس” (Hippolytes) في كتابه “تفنيد الهراطقة”، و”ترتليان” (Tertullian) في كتابه ضد الماركونية، و”كليمندس السكندري” في “متنوعات”، وأوريجانوس (Origen) قى شرحه إنجيل يوحنا.
ولم تصلنا من كتابات الغنوسيين أنفسهم إلا القليل جدًا قبل القرن العشرين، ولكن حدث في 1946 أن اكتشفت مكتبة كبيرة من ثلاث عشرة مخطوطة قبطية بالقرب من مدينة نجع حمادي في صعيد مصر، تجمع ما بين كتابات مسيحية وكتابات غنوسية، مع جزء صغير من ” جمهورية أفلاطون ” وتشمل مجموعات من الأحاديث والصلوات والحوارات والتأملات والرسائل والرؤى والمواعظ. ومع أن للبعض منها عناوين، مثل: “أعمال الرسل “، ” وأناجيل “، لكنها ليست من نوع الأناجيل أو أعمال الرسل القانونية.
ثانيًا: عقائدهم:
إن أسا س التعليم الغنوسي، هو الوجودية الثنائية، من الله، المحبة، الأسمى الفائق الوصف، والعالم المادي الذي يعتبر شرا، أو على الأقل محايدًا. ويوجد بين الله والمادة عدد ضخم من القوى الروحية، يسمونها في مجموعها “ملء الله” (بليروما – Pleroma ) ، ومن أدنى درجاتها يجيء “الخالق” (“الديميرج” Demiurge) الذي هو “يهوه” العهد القديم. ويربطون بين القوى الروحية الساقطة وبين الأجرام السماوية باعتبار أنها هي التي تسيطر على العالم الآن.
ويمتلك بعض البشر (أي الغنوسيين) شرارة إلهية، نفسًا داخلية، تختلف عن النفس البشرية، ورغم أنها مسجونة في الجسد، إلا أن مسكنها الحقيقي هو ” البليروما” (الملء)، إذ يدركون حالتهم عن طريق وساطة هذه المعرفة (Gnosis) ، وهي ليست معرفة عقلية، لكنها معرفة أسطورية برؤية حقيقية وسمع حقيقي.
والفداء عند الغنوسيين لا يتوقف أساسًا على الله، بل على فهم الفرد لذاته، وما ينتج عن ذلك من حرية.
ثالثًا: الجذور:
لقد استعارت الغنوسية الكثير من تقاليد العالم الهللينى. ومع أن العلاقة الدقيقة بين هذه المنابع ما زالت غامضة، إلا أنه يمكن تمييز أربعة مصادر.
أ- الفلسفة الأفلاطونية:
فالغنوسية مدينة بالكثير للفلسفة اليونانية الكلاسيكية وبخاصة الأفلاطونية الوسيطة. ومن أبرز هذه الأفكار أن النفس شرارة إلهية مسجونة في الجسد، وأن الخليقة من عمل “ديميرج” منشق، والثنائية بين الروح والمادة، ومعرفة ” الواحد” (أي الله) التي تأتي بالحدس عن طريق الإعلان الذي كثيرًا ما يكون سَّرًا. وتوجد تعاليم مشابهة فيما يسمى بـ”الكتابات السحرية”، وهي مجموعة من الكتابات الأسطورية اليونانية واللاتينية تُنْسَب إلى “هرمس ترسمجستوس” Hermes Trismegistus وتبدو أهمية أفلاطون عند الغنوسيين، في وجود “جمهورية أفلاطون” بين مخطوطات نجع حمادي.
ب- الديانات الشرقية:
إن علوم الكون عند الغنوسيين مشتقة أساسًا من ديانة الفرس وبلاد بين النهرين، فقد أصبحت الوجودية الثنائية في ديانة “زرادشت” هي محك الفكر الغنوسى، وعليه فهناك قوتان كونيتان تتنازعان العالم المادي، هما: “أهوراماذدا” قوة الخير والنور، وملائكته، و”أهريمان” الروح الشريرة أو قوة الظلمة، وشياطينه . وجمعوا بين بعض هذه القوات (وبخاصة قوات “أهريمان”) وبين الأجرام السماوية كما فعل البابليون. وقد لاحظ بعض العلماء التشابه الموجود بين هذه المعتقدات والأسرار الميثراتية الفارسية التي كانت تعتقد بصعود النفس عن طريق الكواكب لتتحد مرة أخرى بالله.
ج- اليهودية:
كان لليهود في القرن الأول الميلادي، أثر واضح في الغنوسية الناشئة. فالكتابات الرؤيوية ولفائف البحر الميت، يبدو فيها تشابهات واضحة مع الأفكار الغنوسية اللاحقة. فجميعها تتميز بثنائية قوية (مثلا: نور وظلمة، العالم الآتي والعصر الحاضر الشرير)، وجميعها تشدد على أهمية المعرفة. ففي مخطوطات قمران كان ” سمع أشياء عميقة ” مقصورًا على فئة محدودة. وفي الكتابات الرؤيوية نجد الأحاديث الإعلانية والرؤى تكشف خلاص الله.
وفي الإسكندرية خلع ” فيلو ” (Philo Judaeus) ثوبًا يونانيًا على اليهودية، ففي سلسلة من الكتابات للأمم، جمع بين العهد القديم والفلسفة اليونانية بتفسير مجازي، يجد أمورًا أسطورية وفلسفية تحت الروايات الحرفية. وقد تبنَّى هذه الطريقة، بصورة واسعة، المسيحيون والغنوسيون. وأعظم ما ساهم به “فيلو” هو مطابقته بين ” لوجوس ” الفلسفة وبين الحكمة الكتابية [في (أمثال 8)] كالوسط بين الله الفائق السمو، وبين كون يمتلئ بالشر.
كما استعارت الغنوسية كثيرًا من مواضيع وأسماء من سفر التكوين، وبالأسلوب المجازي الغنوسي جدلتها معًا، فمثلًا لم يعد “السقوط” يشير إلى حادث بشري، بل إلى سقوط ” صوفيا” (“الحكمة”، أي حواء) من اللاهوت.
د- المسيحية:
يزداد عدد العلماء الذين يعتقدون أن المسيحية بإعلانها عن مخلص إلهي، كانت عاملًا مساعدًا للحركة الغنوسية. وقد نسب كثيرون من الغنوسيين تعليمهم إلى المسيح والتعليم السري الذي أعلنه لتلاميذه ضمنيًا، بعد القيامة. فالغنوسية تقدم مخلصًا بدون التجسد (المسيح – الروح)، يمنح المعرفة عوضًا عن الدعوة للإيمان [قارن هذا مع (مرقس 12: 14؛ غل 2: 16)].
رابعًا: الغنوسية في زمن العهد الجديد:
عندما قويت الحركة الغنوسية في النصف الأخير من القرن الأول الميلادي، وجدت الكنيسة نفسها تواجه بصورة متزايدة تعاليم كاذبة مصبوغة بألوان من الغنوسية.
فالرسول بولس واجه بيئات سادتها بعض العناصر المكوِّنة للغنوسية، فهو يخاطب مقاومين في كورنثوس “منتفخين بالعلم” (1كو8: 1) يؤكدون على الحكمة القاصرة على عدد محدود، ظانين أنفسهم “بالغين”، وعليه فهم جماعة الصفوة الممتازة (1كو2: 6)، فيؤكد لهم بولس أن المحبة هي التي تبني وليس العلم (1كو8: 1؛ 13: 8)، وهي ليست الحكمة السرية، بل جهالة الصليب (1كو1: 18؛ 2: 7، 8)، ليس الانتماء إلى الصفوة الممتازة بل ” فكر المسيح ” (1كو2: 16؛ في 2: 5-11) ويكتب الرسول بولس إلى الكنيسة في كولوسي ضد تعليم خلط الفكر الهيليني ببعض اليهودية، وجعل منها غنوسية بدائية، وكان هذا التعليم يقول بأن المسيح إنما هو جزء من “بليروما الله” (ملء الله)، لذلك يشدد الرسول بولس على أن المسيح هو صورة الله وسيد كل القوى الروحية (كو1: 15)، وأن ” فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديًا” (كو2: 9؛ انظر أيضًا1: 19). ولأن الهرطقة كانت تنادى بالتقشف [(كو2: 21) – “ولا تمس ولا تذق ولا تجس”]، فإن الرسول بولس نادى بقوة المسيح المحررة (1كو2: 11-15؛ 3: 10).
وتقدم لنا الرسائل الرعوية صورة من أوضح الصور لما تطورت إليه الغنوسية. ففي الرسالة الأولى لتيموثاوس، يشجب المعلمين الذين يتعللون “بمباحثات ومماحكات الكلام، التي منها يحصل الحسد والخصام والافتراء والظنون الردية” (1تي 6: 4)، الذين “بالعلم (gnosis) الكاذب” (1تى6: 20) الذي يتناول “خرافات وأنساب لا حد لها تسبِّب مباحثات دون بنيان الله الذي في الإيمان” (1تي1: 4؛ 4: 7؛ تى1: 14). كما كانوا ينادون بقيامة روحية “قائلين إن القيامة قد صارت” (2تي2: 18). وكان كل ذلك مصحوبا بدعوة للتقشف في الطعام (1تى4: 3)، “مانعين عن الزواج” (1تي4: 3؛ انظر أيضًا 1تي2: 15؛ 5: 14؛ تي2: 4).
وفى رسالة يوحنا الرسول الأولى، يشجب الرسول بشدة مثل هذه المعتقدات، فقد أخذ “المعلمون الكذبة” أقواله عن النور والظلمة” (1يو1: 5، 6)، والله والشرير (1يو5: 19) على أنها ثنائية وجودية، وهكذا استعاضوا عن التجسد بمسيح روحى تمامًا (1يو4: 2) فأنكروا مجيئه في الجسد. واستعاضوا عن الإيمان بالمعرفة (1يو3: 23؛ 5: 20)، وادعو بلوغهم درجة روحية عالية [“في النور”، “بلا خطية” (1يو1: 7، 8)]، بدون ارتباط بالكفارة (1يو2: 2؛ 5: 6-10). كما كانوا يفصلون (كما حدث في كورنثوس) بين الروحانية والسلوك الأخلاقي (1يو: 3، 10، 11)، منكرين إله المحبة المعلن في المسيح يسوع (1يو4: 8)، ففيهم “روح ضد المسيح (1يو4: 3)، فهم “مضلون.. لا يعترفون بيسوع المسيح آتيًا في الجسد” (2يو 7).
ويعتقد بعض العلماء أن النقولايين كانوا من باكورات الغنوسية، فقد كانوا يفخرون بأنهم يعرفون “الأعماق” وهي مصطلح غنوسي (رؤ2: 6، 15، 24). ويجب على المؤمنين أن يقفوا صامدين أمام هذه التجربة من الزنا الروحي والفجور الدنيوي (رؤ2: 20).
خامسًا: الغنوسية بعد العصر الرسولي:
بدأت الغنوسية تأخذ صورتها الرسمية في نهاية القرن الأول. ويعتبر سيمون الساحر أحد مؤسسيها (أع 8: 9 -24)، فقد كان معلمًا دينيًا بين السامريين. بل لقد تطورت أفكارهم عنه حتى قالوا إن سيمون هو “المُعْلِن السماوي” وكانوا يجمعون بينه دائمًا وبين رفيقته “هيلين” التي كانت تجسد عندهم الحكمة. وقد قال آباء الكنسية عن سيمون “إنه أب كل هرطقة”.
وكان كيرنثوس (Cerinthus) أحد أوائل الغنوسيين. ويقول التقليد إنه كان معاصرًا للرسول يوحنا، وكان يعتقد أن المسيح (الروح) حل على الإنسان يسوع عند معموديته، وفارقه قبل الصليب.
وفى القرن الثاني أخذت الغنوسية صورتها الكاملة، وتشكلت منها جملة مدارس كبرى، وكانت أبرز هذه المدارس مدرسة “فالنتينوس” (Valentinus) الذي تعلم في الإسكندرية، ثم جاء إلى روما (نحو 136 م.)، وهناك اعتنق المسيحية. ويجمع “إنجيل الحق” الذي كتبه “فالنتينوس” بين إنجيل يوحنا والفكر الغنوسي في القرن الثاني، ولكن الكتابات اللاحقة انحرفت كثيرا عن هذه المبادئ، وتحول الفالنتيون إلى نظام أسطوري، ونادت المدرسة الفالنتينية بدعوى الخلافة الرسولية، وادعوا أن “ثيوداس” أستاذ “فالنتينوس” كان تلميذًا للرسول بولس. فقد نحوا إلى الأسلوب المجازي في تفسيرهم لإنجيل يوحنا.
وكان “باسيليدس” (Basilides) معاصرًا لـ”فانيتينوس” وقد علًّم في الإسكندرية وفي روما، وقد اشتط في أسلوبه الفلسفي كما انتحى ناحية أكثر أسطورية.
ويعتقد بعض العلماء أن “ماركيون” (Marcionn) كان غنوسيًا. وكان من بنتس، واشتهر في روما كمعلم ومصلح أخلاقي، ولكنه مثل الغنوسيين ميز بين الآب المحب المجهول (إله يسوع)، وبين الله الخالق (“الديميرج”) صاحب العدالة الجامدة، وقال إنه “يهوه” العهد القديم. ولكي يؤيد تعليمه، جرَّد العهد الجديد من كل أثر لليهودية (وكان قد رفض من قبل العهد القديم) ولم يعترف إلا بإنجيل لوقا وعشر رسائل لبولس. كما أنه علَّم -مثل الغنوسيين- بالتقشف الشديد، ولكنه اختلف عنهم في تأكيدهم على اللاهوت الفطري للنفس الداخلية وأفكارهم الأسطورية.
وقد ضعفت الغنوسية بسرعة في القرن الثالث أمام الهجمات المسيحية على أفكارهم الأسطورية، ولكن القرن الرابع شهد نهضة كانت تنادي بفكر ثنائي استطاع أن يجذب إليه الكثيرين بما فيهم الشاب “أوغسطينوس” ومع أن “المانية” اعتنقت بعض الأفكار الغنوسية (مثل الحكمة المقصورة على عدد محدود من الناس)، إلا أنها أدمجتها في نظام ديني مفكك، فقد كانت الغنوسية قد ماتت وانتهت.
سادسًا: تقييمها:
كانت الغنوسية في بداية أمرها، تهدد باكتساح العقيدة المسيحية بهذه الأساطير الجذابة الذاتية الراديكالية. وقد خرجت الكنيسة من تلك الأزمة بتشكيلات متطورة من السلطة (الأسقفية والقوانين الكنسية)، وبدأت في تفسير الكتاب ووضع اللاهوت النظامي. كما أن الكنيسة برفضها الغنوسية، أكدت الوحدة بين العهدين القديم والجديد، وبين الخالق والفادي. كما أكدت أولوية المحبة، وأجابت على الأسئلة الغنوسية: “مَنْ نحن؟ وماذا أصبحنا؟ وإلى أين نسرع الخطى؟”