تُعدّ ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة العربية بواسطة بطرس البستاني وناصيف اليازجي، بالتعاون مع المبشر الأمريكي إلياس سميث ومن بعده كورنيليوس فانديك، مشروعًا تاريخيًا بالغ الأهمية، أسهم بشكل كبير في إثراء اللغة العربية الحديثة وفي نشر الكتاب المقدس في العالم العربي. لم تكن هذه مجرد ترجمة نصية، بل كانت جهدًا لغويًا وثقافيًا ضخمًا في سياق النهضة العربية في القرن التاسع عشر.
في منتصف القرن التاسع عشر، كانت الترجمات العربية المتوفرة للكتاب المقدس قليلة وغير موحدة، وتفتقر إلى الدقة والسلاسة اللغوية، خاصة بالنسبة للغة الحديثة المتداولة آنذاك. كانت الكنيسة الكاثوليكية تستخدم ترجمة بولس أرناؤوطي (ترجمة “عين ورقة”)، بينما كانت هناك ترجمات أقرب إلى العامية أو اللهجات المحلية.
برزت الحاجة إلى ترجمة عربية فصحى حديثة، تجمع بين الدقة اللاهوتية وجماليات اللغة العربية، لتلبية احتياجات الكنائس المسيحية المتزايدة في المشرق، ولفهم أعمق للنص المقدس. هنا جاء دور الإرسالية الأمريكية إلى سوريا وفلسطين، التي كانت تتخذ من بيروت مركزًا لها، والتي تبنت هذا المشروع الطموح.
الفريق والمراحل الأولى: إلياس سميث ودور بطرس البستاني
بدأ العمل على الترجمة في عام 1848، وكان القائد الأولي للمشروع هو المبشر الأمريكي إلياس سميث (Eli Smith). كان سميث لغويًا متميزًا وملمًا بالعربية، لكنه أدرك حاجته إلى خبراء في اللغة العربية الفصحى وأساليبها البلاغية.
وهنا دخل على الخط بطرس البستاني (1819-1883)، الذي كان يُعدّ من رواد النهضة العربية وأعلامها البارزين. كان البستاني لغويًا فذًا، موسوعيًا، ومعلمًا، وقد أسهم في تأسيس المدرسة الوطنية في بيروت. انضم البستاني إلى فريق الترجمة، وعمل بشكل وثيق مع سميث. كان دوره أساسيًا في صياغة النص العربي، وضمان فصاحته، وسلامة تراكيبه، وتناغمه مع روح اللغة العربية.
كانت منهجية العمل تقوم على ترجمة سميث الأولية للنص من اللغات الأصلية (العبرية واليونانية)، ثم يقوم البستاني بمراجعته وصياغته وتصحيحه لغويًا، مع التركيز على اختيار الكلمات الدقيقة والجمل السلسة والعبارات المعبرة.
المرحلة الحاسمة: كورنيليوس فانديك وناصيف اليازجي
توفّي إلياس سميث عام 1857، وهو ما شكل تحديًا كبيرًا للمشروع. تولّى بعده المبشر الأمريكي كورنيليوس فانديك (Cornelius Van Dyck) مسؤولية إتمام الترجمة. كان فانديك طبيبًا ولغويًا وباحثًا متمكنًا في اللغات السامية، وقد أضاف بعدًا جديدًا من الدقة العلمية والمنهجية إلى العمل.
في هذه المرحلة، انضم إلى الفريق الشاعر والأديب الكبير ناصيف اليازجي (1800-1871)، وهو أيضًا من أبرز رواد النهضة العربية وعمالقة اللغة. كان اليازجي معروفًا بفصاحته وبلاغته وشاعريته، وكان مرجعًا في قواعد اللغة العربية وفنونها.
كان دور اليازجي مكملًا لدور البستاني وفانديك. فقد ركّز اليازجي بشكل خاص على:
سلامة اللغة: التأكد من خلو النص من أي ضعف أو ركاكة.
الأسلوب: إضفاء جمالية أدبية وبلاغية على النص، بما يتناسب مع عظمة الكتاب المقدس.
الدقة النحوية والصرفية: ضمان أن يكون النص متوافقًا تمامًا مع قواعد اللغة العربية.
إنجاز الترجمة وتأثيرها
استمر العمل على الترجمة لنحو 17 عامًا من الجهد المتواصل. وتم الانتهاء من ترجمة العهد الجديد في عام 1860، والعهد القديم في عام 1865. طُبعت الطبعة الأولى الكاملة في بيروت عام 1865 بواسطة مطبعة الإرسالية الأمريكية، ومن هنا عُرفت هذه الترجمة باسم “ترجمة فانديك” (Van Dyck Version)، نسبةً إلى قائده الأخير، على الرغم من الجهود الجبارة للبستاني واليازجي.
تُعدّ هذه الترجمة إنجازًا عظيمًا لعدة أسباب:
– دقتها: اعتمدت على أصول اللغات الأصلية (العبرية واليونانية)، مما منحها مصداقية لاهوتية.
– فصاحتها وجمالها اللغوي: بفضل إسهامات البستاني واليازجي، جاء النص العربي فصيحًا، بلاغيًا، وسهل القراءة، ومناسبًا للغة العربية في العصر الحديث.
– توحيد النص: أصبحت الترجمة مرجعًا موحدًا للكتاب المقدس لدى غالبية الطوائف البروتستانتية وبعض الطوائف الأخرى في العالم العربي.
– تأثيرها على اللغة العربية: ساهمت في إثراء المفردات وتجديد أساليب التعبير في اللغة العربية الحديثة، وكانت جزءًا لا يتجزأ من حركة النهضة اللغوية والأدبية في القرن التاسع عشر.
لا تزال “ترجمة فانديك” هي الترجمة الأكثر انتشارًا واستخدامًا بين البروتستانت في العالم العربي حتى اليوم، وشكلت نقطة تحول في تاريخ ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة العربية.
المرجع/ كيف وصل إلينا الكتاب المقدس – مجموعة من المؤلفين.