Description

شهد العالم القديم صعود وسقوط العديد من الإمبراطوريات العظمى، من بينها دولتان إيرانيتان لعبتا دورًا محوريًا في تشكيل المشهد الجيوسياسي والثقافي للمنطقة: ميديا والإمبراطورية الفارسية الأخمينية. على الرغم من أن الفرس حلوا محل الميديين كقوة مهيمنة، إلا أن العلاقة بينهما كانت معقدة ومتشابكة، لدرجة أن الكتاب المقدس غالبًا ما يذكرهما معًا تحت اسم “مادي وفارس”، مما يعكس تداخلهما السياسي والثقافي.
أولًا: الميديون (حوالي القرن الثامن ق.م – 550 ق.م)
الميديون هم شعب إيراني قديم، استوطن منطقة تُعرف باسم ميديا، والتي تقع جغرافيًا بين غرب وشمال الهضبة الإيرانية حاليًا (أجزاء من إيران وأذربيجان).
بدأ الميديون في التوحد ككيان سياسي مستقل في وقت ما خلال القرن الثامن قبل الميلاد.

يُحدد بعض المؤرخين بداية مملكتهم المستقلة حوالي 678 قبل الميلاد.

في هذه الفترة، بدأ الميديون في تعزيز قوتهم وتأثيرهم الإقليمي، لا سيما في مواجهة جيرانهم الأقوياء، الآشوريين. ووصلت الإمبراطورية الميدية إلى أوج قوتها في القرن السابع قبل الميلاد.

كان الحدث الأبرز الذي رسّخ هيمنتهم هو تحالفهم مع البابليين للقضاء على الإمبراطورية الآشورية. ففي عام612 قبل الميلاد، سقطت نينوى، عاصمة الآشوريين، على أيدي هذا التحالف، مما أزال تهديدًا كبيرًا وعزز نفوذ الميديين بشكل هائل في الشرق الأدنى.

كانت عاصمتهم الرئيسية هي مدينة إكباتانا، والتي تُعرف الآن باسم همدان في إيران. ولكن سرعان ما انتهى الحكم المستقل للميديين حوالي عام 550 قبل الميلاد على يد حفيدهم، كورش الكبير، مؤسس الإمبراطورية الفارسية الأخمينية.

كان كورش فارسيًا، لكنه كان مرتبطًا بالعائلة المالكة الميدية (جده لأمه كان الملك الميدي أستياج). عندما ثار كورش على أستياج وانتصر عليه، لم يدمر مملكة ميديا، بل قام بدمجها ضمن إمبراطوريته الناشئة. احتفظ الميديون بمكانة مرموقة في البلاط الفارسي وشغلوا مناصب إدارية وعسكرية مهمة، مما يدل على تكاملهم وليس إبادتهم.

ثانيًا: الإمبراطورية الفارسية الأخمينية (550 ق.م – 330 ق.م): تُعد الإمبراطورية الفارسية الأخمينية واحدة من أكبر وأقوى الإمبراطوريات في تاريخ العالم القديم. نشأت من منطقة فارس (جنوب غرب إيران حاليًا) على يد كورش الكبير.

تأسست الإمبراطورية الفارسية الأخمينية رسميًا عام 550 قبل الميلاد على يد كورش الكبير، بعد انتصاره على الميديين. وتميزت فترة كورش بالتوسع السريع والمذهل: فقد غزا مملكة ليديا في آسيا الصغرى عام 547 قبل الميلاد. كما فتح مدينة بابل الشهيرة عام 539 قبل الميلاد، منهيًا بذلك الإمبراطورية البابلية الحديثة. وقد سمح كورش لليهود المنفيين في بابل بالعودة إلى أورشليم وإعادة بناء هيكلهم، مما أكسبه مكانة خاصة في الكتاب المقدس.
ثم توسعت الإمبراطورية بشكل أكبر تحت حكم خلفاء كورش، وخاصة ابنه قمبيز الثاني الذي غزا مصر عام 525 قبل الميلاد. ووصلت الإمبراطورية الفارسية إلى أوجها في عهد داريوس الأول (داريوس العظيم)، الذي حكم من 522 قبل الميلاد إلى 486 قبل الميلاد.
امتدت الإمبراطورية من البلقان وأوروبا الشرقية في الغرب (بما في ذلك أجزاء من اليونان)، إلى وادي السند في الشرق، لتصبح بذلك أكبر إمبراطورية عرفها العالم القديم حتى ذلك الوقت.
تميزت الإمبراطورية الأخمينية بخصائص فريدة:
التنوع الثقافي: كانت الإمبراطورية مجتمعًا متعدد الثقافات واللغات والأديان، يشمل شعوبًا من مصر واليونان وبلاد الشام والهند.
الإدارة الفعالة: أسس داريوس الأول نظامًا إداريًا متطورًا للغاية. قسّم الإمبراطورية إلى مقاطعات (ساترابيات) يحكم كل منها “ساتراب” (حاكم) مسؤول أمامه. وقد سمح هذا النظام بدرجة عالية من الحكم الذاتي المحلي مع الحفاظ على الولاء للسلطة المركزية. كما تميزت بنظام بريد فعال وطرق ممتازة (مثل الطريق الملكي).

التسامح الديني: اتبعت الإمبراطورية الفارسية سياسة التسامح الديني، مما سمح للشعوب المحتلة بممارسة معتقداتهم وعاداتهم الخاصة، طالما أنهم يدفعون الضرائب ويطيعون السلطة المركزية.

القوة العسكرية: امتلكت الإمبراطورية جيشًا ضخمًا ومنظمًا، بما في ذلك “الخالدون” (حراس النخبة الملكية).

التدهور والسقوط: بعد فترة الازدهار والذروة، بدأت الإمبراطورية في التدهور البطيء، والذي تميز بالصراعات الداخلية والتمردات المتفرقة، وإن ظلت قوة عظمى لقرنين تقريبًا.

كانت الحروب الفارسية-اليونانية (بدءًا من أواخر القرن السادس ق.م) مرهقة ومكلفة، وأظهرت نقاط ضعف للإمبراطورية. وجاء السقوط النهائي على يد الإسكندر المقدوني في سلسلة من المعارك الحاسمة، أولها معركة إسوس (333 قبل الميلاد) انتصر الإسكندر على جيش داريوس الثالث، آخر ملوك الفرس الأخمينيين. والمعركة الثانية هي معركة غوغميلا (331 قبل الميلاد) كانت هذه المعركة ضربة قاصمة وقضت على المقاومة الفارسية المنظمة.
وفاة داريوس الثالث وانهيار الإمبراطورية (330 قبل الميلاد): بعد هزيمته، فرّ داريوس الثالث وقُتل لاحقًا على يد أحد ساترابيه، مما أدى إلى انهيار الإمبراطورية الفارسية الأخمينية بالكامل وسيطرة الإسكندر على جميع أراضيها.
والآن لدينا سؤال بالنسبة لذكرهما في الكتاب المقدس، فلماذا ذكرهما الكتاب المقدس معًا “مادي وفارس”؟
ذكر الكتاب المقدس مادي وفارس معًا (في سفر دانيال وسفر أستير) لعدة أسباب تاريخية وسياسية وثقافية:
1. الاندماج السياسي والتداخل التاريخي: لم تكن الإطاحة الميدية من قبل كورش إبادة كاملة، بل كانت عملية دمج. احتفظ الميديون ببعض نفوذهم ودورهم في الإمبراطورية الأخمينية الجديدة. كانت القوانين، على سبيل المثال، تُعرف باسم “شريعة مادي وفارس” (دانيال 6: 8؛ أستير 1: 19)، مما يشير إلى أن الكيان السياسي الجديد كان يعتبر مزيجًا من القوتين.
2. الأصل الإيراني المشترك: كلتا المجموعتين كانتا من أصل إيراني، وتتشاركان في اللغة والعادات والثقافة، مما سهل عملية الاندماج والتعايش تحت حكم واحد.
3. التعاقب في الهيمنة: تعكس الإشارة إلى “مادي وفارس” التعاقب في القوة والهيمنة في المنطقة؛ فبعد فترة من الهيمنة الميدية، صعدت قوة فارس لتصبح هي الحاكمة، لكن مع الحفاظ على بعض الإرث الميدي.
خاتمة: شكّلت كل من ميديا والإمبراطورية الفارسية الأخمينية فصولًا حاسمة في تاريخ العالم القديم. لقد أثرتا بشكل عميق على التطورات السياسية، الثقافية، والدينية في منطقة الشرق الأوسط وخارجها، وتركت الإمبراطورية الفارسية إرثًا دائمًا في الإدارة، الفن، والتسامح الديني الذي ألهم إمبراطوريات لاحقة.
المراجع
أطلس الكتاب المقدس من 191 – 200.
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1447.html
https://study.com/academy/lesson/kings-of-the-persian-empire-cyrus-cambyses-ii-darius-i.html

Gallery

Add Review & Rate

Be the first to review “ممالك في الكتاب المقدس – مملكة مادي وفارس”