الموضوع

هو يحيى بن حبش بن أميرك، وكنيته أبو الفتوح، ولقبه شهاب الدين. لُقّبَ بالمقتُول تمييزًا له عن متصوّفة آخرين حملوا اسم “السُّهروردي” أيضًا. لُقّبَ كذلك بالحكيم.
ولد السُّهْرَوَرْدي حوالي منتصف القرن السادس الهجري. تذهبُ التقديرات التاريخية إلى عام 545هـ كتاريخ لمولده، بينما الكثير من المصادر رجّحت، دون تدقيق، أن يكون تاريخ الولادة بين 545 و550هـ، في قرية سُهرورد. وهي بلدة كردية في شمال غرب بلاد فارس، قرب همذان، وهي منطقة ميديا القديمة.
هذه المنطقة، عُرفت حينها بالتّحرر الفكري والعقائدي، وشهد فيها العقلُ الإنسانيّ نشاطًا ملحوظًا؛ حتّى أنّ بعض المراجع تقول إنّ هذا التحرر، بالذّات، كان عاملًا أساسيًّا في أن يهجرها الكثيرون من سكّانها، وظلّت عائلاتٌ معدودة لم تبرح المدينة، بما فيها أسرة السُّهروردي.
بعض المعلومات المتناثرة التي ينقلها المتخصص في فلسفة السهروردي، خنجر حميّة، تشير إلى أن هذا المتصوف لم يكتف بما تلقاه من العلوم في بلدته سهرورد، وإنما قام برحلات علمية عديدة، مثله في ذلك مثل كثيرين من طلبة العلم في عصره، فكان كثير الترحال من بلد إلى آخر، مثل أصفهان ومراغة في أذربيجان، حيث تناول علمه على يد ظهير الدين القاري، وقابل عددًا من شيوخ المتصوفة ومال إليهم وإلى ما عندهم من علم الباطن، ودرس علوم الفلسفة والدين في مراغة من أعمال أذربيجان على يد مجد الدين الجيلي، الفقيه الأصولي المتكلم، ولازمه مدة، إلى أن برع فيهما.
ترك السهروردي أذربيجان واستقلّ بنفسه ومال إلى المباحث الفلسفية والصوفية، لأنه كان من أسرة صوفية معروفة. ثم تنقل في البلاد على قدم التّجرد، ولقي بماردين الشيخ فخر الدين المارديني، وكانت بينهما صحبة.
ويبدو أثر ذلك في مذهبه الذي لم يخل من نزعة مشّائية (مدرسة أرسطو) في بعض الأحيان، رغم أنه أقرب للتقليد الفلسفي الأفلاطوني. كان فخر الدين المارديني يثني عليه كثيرًا ويقول: “ما أذكى هذا الشاب وأفصحه! لم أر في زماني أحدًا مثله”. في أصفهان، التقى بتلامذة الفيلسوف الشهير ابن سينا، واطمأن إلى صحبتهم، وأولع بهم، فكانوا أصدقاءه.
كما زار غربًا دیار بکر أيضًا، وكان يفضل الإقامة فيها، واتصل بأمير خربوط عماد الدين قره أرسلان، وأهدى إليه كتابه “الألواح العمادية”. المستشرق ماسينيون يرى أنه أسس مذهبه الإشراقي في بلاط هذا الأمير.
بعدها، سافر إلى الأناضول في آسيا الصغرى، وهي جزء من تركيا حاليًّا. وكان كلما حل ببلد، يبحث عن العلماء والحكماء فيه، فيأخذ عنهم، ويصاحب الصوفية، ويأخذ نفسه بما كانوا يمارسونه من مجاهدات وریاضات روحية. ثم رحل إلى سوريا، فزار دمشق واستقر به المقام أخيرًا في مدينة حلب، حوالي سنة 579هـ.
السُّهروردي… متصوّف عاثر الحظّ؟
جرت العادةُ أن تتمّ الإشارة إلى أنّ عصر السّهروردي، أي القرن السادس الهجري، كان منغلقًا وعرف فيه التعصّب للرأي أَوْجَهُ، واندحرت الأفكار التّحررية واشتدّت الصراعات المذهبيّة والصراعات السياسية.
وكانت ثمّة حملة شديدة من الاضطهاد والتّعصب تتجهُ مدافعها ضد الفلاسفة والباطنية من إسماعيلية وإماميّة وغيرهم من مذاهب الشّيعة.
أمَّا من النّاحية السّياسية، فكان العالم الإسلامي موزعًا بين الخلافة العباسية السُّنية، والخلافة الفاطميّة الشيعية، وكان البويهيون الشيعة قد هيمنوا على مقاليد الأمور في إيران وکردستان والعراق، وأبقوا على الخلافة العباسية ظاهريًّا، وتحكموا في الخلفاء حقيقة.
حين استقرّ الحال بالسّهروردي بحلب، كتب أهم أعماله: “حكمة الإشراق” و”اللّمحات”، و”التّلويحات”، و”المقاومات”،  و”المطارحات”، إضافة إلى عشرات الكتب الثانوية والرسائل.
يقول السُّهروردي في آخر كتابه “المطارحات”: “وهو ذا قد بلغ سني تقريبًا ثلاثين سنة، وأكثر عمري في الأسفار والاستخبار والتفحص عن مشارك مطلع، ولم أجد من عنده خبرة عن العلوم الشريفة، ولا من يؤمن بها”.
لننتبه أنّه، إلى جانب علم السّهروردي الغزير وأفكاره الواسِعة الآفاق، كان يتمتّع بجرأة بالغة في التّعبير عن أفكاره الصّادمة للوعي العام السّائد في القرن السّادس الهجري. كانت تلك الجرأة تتفاقم فتصل إلى حد التهور أحيانًا، وقد أشار فخر الدين المارديني إلى تلك الصفة فيه، فقال: “أخشى عليه لكثرة تهوره واستهتاره”.
لم يكن يمارسُ التّقية التي اعتمد عليها غيره من المتصوفة إيثارًا للسّلامة والعافية، وكان ميّالًا إلى البوح والإفصاح. وكان يتصف بمجموعة من الصّفات الشّخصية: جرأة الشباب، وثقة في النفس، واعتداد بالذات، وشجاعة في الحق، وإقدام فكري، كأنه كان نابغة زمانه.
كان طبيعيًّا أن يحدُث تصادم مع فقهاء أشعريين يتشبثون بحرفية النص ظاهريًّا، ويكفّرون الفلاسفة ويحاربونهم ويعادون الصوفيّة.
حين أفصح عن بلاغته وسعة علمه واطّلاعه على مختلف الحقول المعرفية والكلامية والفلسفية في ذلك الزمن، كانت النتيجة أن تألب الفقهاء عليه وكثر تشنيعهم عليه، خصوصًا حين قرّبه الملك الظاهر، ابن صلاح الدين الأيوبي، وصاحبه بعد أن أعجب به، فأدى ذلك إلى مزيد من حقد وحسد الفقهاء عليه.
راسل هؤلاء الفقهاء صلاح الدين الأيوبي، وقالوا إنّ ابنه الظاهر يصاحب كافرًا ومارقًا وملحدًا وزنديقًا. تمادوا في تحذيره من إفساد عقائد الناس إذا تركه، فضلًا عن إفساد عقيدة ابنه الظاهر المعجب بالشّهاب السّهروردي.
في كتابها “صرعى التصوف”، تقول الباحثة أسماء خوالديّة إنّهُ، نظرًا لاشتداد الخلاف بين السهروردي والفقهاء، دعاهم الظاهر إلى مناظرة فكرية، وكان من جملة ما دار في المناظرة بين الفقهاء والسهروردي ما يلي:
الفقهاء: أنت قلت في تصانيفك إن الله قادر على أن يخلق نبيًا، وهذا مستحيل.
السهروردي: لا حد لقدرته. أليس القادر إذا أراد شيئًا لا يمتنع عليه؟
الفقهاء: بلی.
السهروردي: فالله قادر على كل شيء.
الفقهاء: إلا على خلق نبي فإنه مستحيل.
السهروردي: فهل يستحيل مطلقًا أم لا؟
الفقهاء: كفرت.
ثمّ تعلّقُ خوالدية على هذه المناظرة، قائلةً إنّها تبينُ أن السهروردي فرّق بين النقل والعقل، بين “الإمكان التاريخي” و”الإمكان العقلي”؛ فليست هناك استحالة مطلقة تعطل القدرة الإلهية، وليس ثمة اعتراض في الوقت نفسه على صحة النص الديني القاضي بأن النبي محمد خاتم الأنبياء. أما الفقهاء، فقد تمسّكوا بحرفية النص الديني… وتلكَ مأساةُ السّهروردي!
أمّا بخصوص طريقة إعدامه، فقد اختلف فيها المؤرخون. هناك فريقٌ يقول إنه قُتل بتجويعه عبر احتجازه بغرفة حتى ترجّل وحيدًا، وكان تلبيةً لطلب السهروردي أن يُعدم كذلك؛ وفريقٌ آخر يقول إنه خُنق بوتر وآخر يذهب إلى إعدامه بالسيف، بينما فريق آخر رجّح إحراقه.
يوردُ ابن أبي أصيبعة رواية متماسكة قال فيها: “لما بلغ الشهاب ذلك، وأيقن أنه يُقتل، وليس جهة إلى الإفراج عنه، اختار أن يُترك في مكان منفرد، ويُمنع من الطعام والشراب، إلى أن يلقى الله تعالى. ففعل به ذلك، وكان في أواخر سنة 586هـ في قلعة حلب، وكان عمره نحو 36 عامًا”.
إعدام السّهروردي في النهاية، هو امتداد لإعدام الحلاج وعين القضاة وغيرهم من الصّوفية. إنها شطحةُ المتصوف حين تجدُ سيفَ الدين يسلخُ أطرافها.
الإشراق والسهروردي
انتهى السهروردي إلى مذهب الإشراق، الذي أطلق عليه “علم الأنوار”، أو “حكمة الإشراق”، ويتمحور حول اعتبار النور مبدأ الوجود. وكلما انحدر الوجود من مستوى المصدر الأعلى إلى ما تحته، انخفضت درجة النور. وعندما نصل إلى عالم الأجسام، نجد النور يقل، ثم يتلاشى تمامًا في عالم الظلام.
خصص السّهروردي جلّ كتاباته لعلم الأنوار وتخطيط العالم العقلي النوراني، وتناوله بشكل أساسي في كتابه “حكمة الإشراق” خاصة في القسم الثاني، الذي يدور حول نور الأنوار ومبادئ الوجود وترتيبها.
الإشراق عند السهروردي هو السبيل إلى الفيض العلوي لمن امتلأ قلبه حكمة فأحبّها ووضع لها شروطًا للوصول إليها، كالتجرد والانقطاع عن الدنيا، ومشاهدة الأنوار الإلهية.
هنا، يظهرُ مكمنُ قوّة السهروردي حين ربط بين الفلسفة والتصوف، وسمى الفيلسوف المتصوّف بالحكيم المتأله، أو الذي يتذوّق الحكمة، وعمد السهروردي إلى القصص في كتابه “التلویحات” ليبين رؤياه الوفية حيث يرد كل شيء إلى نور الله وفيضه.
على أيّ، يهدفُ الإشراق إلى الوصول إلى المعرفة الحقيقية عن طريق الذوق والكشف، وليس عن طريق البحث والبرهان العقليين.

صور

اضافة صورة وتعليق

كن أول من يكتب مشاركة "السُّهروردي"