الموضوع

وُلِد ماركيون حوالي عام 120م في مدينة سينوب التي تقع علي البحر الأسود في تركيا، من أسرة مسيحية ثرية تحتل مركزًا اجتماعيًا مرموقًا، وكان أبوه أسقفًا للمدينة. وبرغم انتمائه للفلسفة الغنوسية وميله إلي حياة التقشف، إلا أنه عندما شب عمل بالتجارة، فكان تاجرًا ناجحًا يملك أسطولًا من المراكب تعمل في نقل البضائع، واستطاع أن يكوِّن ثروة كبيرة من عمله التجاري.
وتذكر المصادر الآبائية أن ماركيون كان في خلاف دائم مع والده حول مسائل عقائدية. وكان على علاقة غير شرعية مع إحدى الفتيات، مما جعل والده يقوم بحرمه من الكنيسة. فسافر إلى روما عام 140م وانضم لكنيستها، وأظهر هناك نشاطًا كبيرًا في الخدمة، ولكنه أظهر أيضًا تعاليم غير مستقيمة مما دفع الكنيسة هناك لحرمه عام 144م. فأسس ماركيون كنيسة خاصة به، وجعل فيها نفس الوظائف الكنسية، وانضم إليه عدد كبير من الأتباع بسبب نشاطه، واستخدام أمواله في جمع الأتباع، ونجح في ذلك، فصارت كنيسته وعقيدته مصدر قلق للكنيسة لقرون عديدة.
ماركيون وإله العهد القديم:
تأثر ماركيون بالغنوسية جدًا، لذلك عندما وجد صعوبة في التوفيق بين نصوص العنف في العهد القديم التي تأمر بقتل الشيوخ والأطفال والنساء، وبين النصوص التي تأمر بالرحمة في العهد الجديد، ومحبة الأعداء، ومباركة اللاعنين، وتحويل الخد الآخر، فتساءل:
كيف يكون حنونًا ومنتقمًا في نفس الوقت؟
كيف يكون ديانًا ومُنعِمًا في نفس الوقت؟
كيف يأمر بقتل الأطفال في العهد القديم وفي نفس الوقت يضع يده على رؤوسهم ويباركهم في العهد الجديد، لا يمكن أن يكون هو نفس الإله.
وخرج ماركيون من هذه الدوامة بنوع غريب من الثنائية إذ علَّم بوجود إلهين؛ أحدهما عادل وقاسي وهو إله العهد القديم، والآخر محب وهو إله العهد الجديد، وقال:
إن إله العهد القديم هو خالق الشر (إش45: 6، 7)، بينما إله العهد الجديد هو صانع الخيرات.
إله العهد القديم قاسي دفع بالدبتين لافتراس 42 صبيًا صغيرًا لأنهم عيَّروا نبيه أليشع (1مل2: 23 – 25)، بينما إله العهد الجديد تكلم في المسيح قائلًا: “دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ.. لأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ” (مت19: 14).
إله العهد القديم مسئول عن كل الشر الذي في العالم (عا6:3)، وهو الإله الذي أعطى الناموس وكل بلاويه، فلا يمكن أن يكون هو نفسه المخلِّص. فكان يعلِّم بوجود إلهين:
1- الإله الخالق: الذي خلق العالم، وهو أقل درجة من الإله الصالح، وهو إله إسرائيل، اختار اليهود شعبًا له، وأعطاهم الناموس والأنبياء، وترك بقية الشعوب فريسة للوثنية والمادية. ومع إنه إله بار إلاَّ أنه إلهًا قاسيًّا، سريع الغضب والانتقام، يحارب ويسفك دماء أعدائه بلا رحمة، ويعاقب بقسوة الذين تعدُّوا الناموس، وهو السبب في كل الحروب، وهو إله كل شر.
يقول العلامة ترتليانوس في كتابه (ضد ماركيون) “إن مفهوم ماركيون لإله العهد القديم إنه قاض قوي وعادل ولكنه غضوب وقاسي ومتغيّر وضيق الأفق، ويقول عن نفسه إنه خالق الشر، أي الكوارث”. ولذلك فقد ادَّعى ماركيون أن إله العهد القديم لا يمكن أن يكون هو نفسه يسوع المسيح إله الرحمة.
2- الإله الفادي: وهو أعظم من إله اليهود، هو الإله الصالح المحب الحنون، إله العهد الجديد، إله المسيحيين السامي، وهو الذي يسكن في السماء الثالثة، ولا صلة له بالعالم لأنه منفصل عن المادة، ولم يخلق العالم، ولم يكن أحد يعرف عنه شيئًا، إلي أن ظهر يسوع المسيح فجأة ليعلن عنه، ففي السنة الخامسة عشر من حكم الإمبراطور طيباريوس قيصر ظهر هذا الإله الفادي في شخص السيد المسيح ليخلص الناس من الشر، وقد حرَّك إله اليهود أتباعه لصلبه، وبعد الموت بالصليب ذهب مباشرة إلى الهادس لإعلان الإنجيل للوثنيين ولأسرى الإله اليهودي، وبعد أن بشَّرهم صعد إلى السماء مباشرة بدون قيامة على الأرض، وفي اليوم الأخير سيحكم على إله اليهود، ويطرحه في الهادس.
ماركيون والمسيح:
كان ماركيون يري أن يسوع المسيح جاء ليخلص الإنسان، ولكنه رفض أن يكون يسوع هو المسيح الذي بشر به إله اليهود في العهد القديم. وقال إن المسيح جاء ليزيل كل الشر الذي تسبب به إله اليهود، الذي اعتبره ماركيون إله العدالة والدينونة، بينما المسيح عنده هو ظهور لإله المحبة المختص بالخلاص، والعدالة مناقضة للنعمة ولا يمكن أن تصدر من مصدر واحد.
التجسّد عند ماركيون مجرد مظهر لأنه لا يؤمن باتصال ما هو مادي بما هو إلهي، لأن المادة شر. والذي تجسّد في يسوع المسيح هو الله نفسه وليس ابنه الكلمة الأبدي.
وقد احتقر ماركيون الجنس، ورفض تعميد المتزوجين، لأن الزواج من أمور هذا العالم الذي خلقه الإله القاسي، وبناء عليه يجب السمو عن هذا العالم المادي وما في المادة من شر، ويكون السمو عن العالم بالترفع عن الزواج، وممارسة حياة التقشف.
ماركيون والكتاب المقدس:
بسبب نظرة ماركيون الخاطئة لإله العهد القديم، رفض أسفار العهد القديم رفضًا كليًّا، لأنها في نظره هي وحي من إله اليهود القاسي المنتقم وليست وحيًا من الإله المُحب السامي، ووضع ماركيون كتابه “المتناقضات” الذي سجل فيه اعتراضاته، وقال: إن إله العهد القديم هو خالق الشر، بينما إله العهد الجديد هو صانع الخيرات.
وشدَد ماركيون على التعارض بين أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد، وجعل الإنجيل منفصلًا انفصالًا تامًا عن أسفار العهد القديم. وقال: إن الشريعة القديمة تلفت انتباهنا إلى العدالة والقساوة والعنف، بينما الشريعة الجديدة إلى الحب والرحمة والحرية. فهل يُعقَل أن تأتي الشريعتان من إله واحد، كلاَّ! فالشريعة الجديدة مصدرها إله المحبة الذي ظهر لنا في يسوع المسيح.
لقد كانت المعارضة واضحة بين يسوع والعالم اليهودي، وهذا دليل على المعارضة بين نظامين وعهدين وشريعتين وإلهين. ولقد جاء يسوع ليحرّر الناس من النظام الأول والعهد الأول والشريعة الأولى”.
ويقول د. القس حنا الخضري: أما موقفه من العهد الجديد فلم يتمسك إلا بعشر رسائل من رسائل بولس الرسول، وحذف كل الكتابات الأخرى الموجودة في العهد الجديد إلا إنجيل لوقا، بعد أن حذف منه أيضًا نصوصًا كثيرة جدًا لأنه أنكر حقيقة الميلاد، وحقيقة الصلب والقيامة، وحتى الرسائل البوليسية التي احتفظ بها واعترف بصحتها لم تنج من الحذف، كما حذف أيضًا من إنجيل لوقا كل النصوص التي تشير إلى الآب المحب، أو أن الإله الخالق هو أبو ربنا يسوع المسيح لأنه يؤمن بأن أب يسوع المسيح ليس هو الله الخالق “الإله القاسي من وجهة نظره”، بل الآب المحب العظيم الذي لا علاقة له بإله اليهود.
وقد أصدرت الكنيسة ضده قرارًا بالحرمان عام 144م ويعتبر هذا هو تاريخ أول انشقاق لجماعة من جسد الكنيسة.
وقد كان للمواجهة التي تمت بينه وبين القديس بوليكاربوس عام 155م الأثر الكبير في رجوع عدد كبير من أتباعه إلى الكنيسة.
وكتب العلامة ترتليانوس كتابه المشهور “ضد ماركيون” وفيه يرد على كل أفكاره المسمومة، ويتكون من خمسة أجزاء.
كذلك كتب القديس إيريناوس خمسة أجزاء يرد على الغنوسيين، وفيهم أشار إلى ماركيون وأفكاره المغلوطة.
وقال الشهيد يوستين عن ماركيون أنه أقوى الهراطقة، ووضع يوستين مؤلفًا ضد معتقداته الخاطئة.
واستمرت الكنيسة في محاربة هذه البدعة حتى انتهت مع مطلع القرن العاشر.
المرجع:
د. القس عزت شاكر: كتاب إله العهد القديم وإله العهد الجديد (مركز الكلمة للأبحاث والدراسات)

صور

اضافة صورة وتعليق

كن أول من يكتب مشاركة "من هو ماركيون؟"